خرائب بيروت
في عامي 1975-1976
دخلت قوّات الرّدع العربية بيروت فتوارت آلات القتال والتدمير، فصمتت أصوات الهواوين ورعود المدافع الميدانيّة وخرست زغاريد الرصاص المنطلقة من أفواه الرشّاشات والبنادق المتنوّعة الأشكال والأحجام والأنواع التي يتقن وصفها أهل الاختصاص وأرباب الحرب، وصمتت ولولة الصواريخ التي ظلّت أشهرًا طويلة بلياليها، تؤرق الآمنين في عقر دورهم وترهب الأطفال في أحضان أمّهاتهم.
اطمأنّ الناس، لا بالأحرى بعض الناس، فأخذهم حبّ الفضول والاستطلاع ومعرفة ما أصاب أحياء بيروت التجاريّة في خلال تسعة عشر شهرًا من القتال بين أبناء الوطن الواحد، وانطلقوا زرافات ووحدان، نساءً ورجالًا، يعرّجون على شوارع المدينة وجادّاتها وأزقّتها ليشاهدوا ما خلّفته تيك الحرب الأهليّة الشرسة من دمار.
كنت مع هذا البعض من الفضوليّين والمحبّين لرؤية ما جرى بالعين المجرّدة، وسيرًا على القدمين، بدءًا من شارع مي زيادة في حيّ القنطاري من المنطقة الغربيّة الجميلة حيث استشهد الحبيب "عماد" مع رهطٍ من المناضلين الواعين الشرفاء وانتهاءً بساحة البرج، البرج الذي شيّده يومًا فخر الدين الكبير ابن الشوف الشمّاء، مرورًا بمختلف أنحاء المنطقة الخضراء، مركز التجارة الرئيسيّ وكنز لبنان الاقتصاديّ!
طوّفت أطراف هذه المنطقة التي كانت خضراء، ويا لهول ما شاهدتُ! ويا لفظاعة ما اقتُرف! ويا للخجل ممّا ارتكب!
الفنادق المزهرة التي كانت تضجّ بالحياة وترقص من البهجة وتتلألأ بالأنوار الساطعة باتت سوداء قاتمة خلت من الأنس واستوطن غرفها طير البوم والوطاويط وأقفلت مداخلها بجدران الآجر البشعة، فلا رِجل تلجُها أو تخرج منها، إنّما نوافذها تحوّلت إلى ملاعب للرياح العاوية ومداخل حرّة لولوج أشعّة الشمس الكاوية، "السان جورج" و"الفينيسيا" و"الهوليدي إن" و "الهلتون" و "النورمندي" أصبحت هياكل كهياكل العظام النخرة، يحزن لرؤيتها الأثرياء الذين اتخموا بالمال ويشمت المحرومون!
وعلب ليل الزيتونة انخمدت أنفاس أضوائها، وخلت من روّاد سهراتها، فلا ديار ولا نافخ نار في مقاهيها ومطاعمها!
أمّا "جادة الفرنسيين" ذات المحلّات الأنيقة والمخازن المزيّنة ومفارش السجّاد النفيس، فقد تدمّرت وصارت ركامًا قبيحًا يصدم النفس منظره وتتقزّز منه العيون؛ وشارع "الحويّك" الممتدّ من "قصر العدل" القديم الذي بناه ولاة الترك حتّى " قصر البحر" قد هُشّمت أو دُمّرت كلّ مبانيه وأحرقت كلّ مخازنه، ولولا جرّافات نشطت لترفع منه الأنقاض وتخليه من التراب والصخور لما استطاع أحد المرور فيه؛ وقرب مطعم العجميّ الشهير بمآكله، استوقفتني المناظر المذهلة المخيفة: فسوق الطويلة وما جاوره من سوق الجميل وسوق إياس وسوق الجوخ وما يتفرّع منها من زواريب وأزقّة مكشوفة أو مسقوفة قد تدمّرت تدمّرًا يكاد يكون كاملًا. كلّ بابٍ من أبواب مخازنها قد تحطّم وخردقته طلقات البنادق والرشّاشات بآلافٍ من الطلقات حتّى بات كالصرد المستعمل في بيادر الزرّاعين وكسّارات الصنوبر المتنيّة!
وعرّجت على شارع "اللنبي" وشارع "فوش" المتّصلين بالبحر شمالًا وشارع "ويغان" جنوبًا، وما بينهما من شوارع متوازية متقاطعة حسنة الهندسة، فأبصرت مشهدًا لا يقلّ قبحًا وتدميرًا عن المشهد السابق الذكر، وممّا يزيد النفس اشمئزازًا والقلب ألمًا، أنّ معظم أبنية هذه الشوارع مشيّدًا بالحجر المنقوش أو المصقول، وقد تسحّن حجره من جرّاء الصواريخ والقذائف وتكلّس بفعل نار الحريق، وتصدّعت شرفاته وأحرقت نوافذه؛ والعديد من مباني هذا الحي التجاريّ والمصرفيّ قد تحطّم فباتت أعاليها أسافل ولامست سقوفها أساسها.
إنّ المخلوقات اللابشريّة التي قامت بتيك الممارسات المجرمة، مثقّفة بفنّ التخريب، متعمّقة في معرفة أصوله، إذ إنّها أتت على كلّ شيء هناك، بدون استثناء وبدون تمييز. سرقت محلّ المسلم والمسيحيّ وأحرقته أو دمّرته وطبّقت سنن العدل والمساواة بين الجميع في مجال الجريمة!
وفي سوق "سرسق" و "ساحة الشهداء" و"ساحة الدبّاس" و"العازارية" و"ساحة رياض الصلح" الذي دمّروا تمثاله، يتكرّر المشهد ذاته، مشهد الخراب والدمار والعار! ولم تستثن الجوامع والكنائس من تخريب أولئك الفنّانين، فصبّوا عليها جام غضبهم وحقدهم وقبحهم ورموها بآلاتهم الجهنميّة، فثقبوا بعض حيطانها وهبّطوا قسمًا من سقوفها وسطوحها وهشّموا مآذنها وقبابها وشوّهوا زخارفها البديعة، من دون احترام لمحتواها التاريخيّ وغير مبالين بما قد يجرّه عليهم يومًا غضب أوليائها وقدّيسيها وشفعائها، لا وجدان يردعهم ولا خوف الله يصدّهم عن ارتكاب تلك الجرائم التي لا يرتكب مثلها سوى من تجرّد من كلّ رحمه ومن كلّ روح إنسانيّة وتغسّل دماغه بظلمة الجهل والغباء! ويا للعار ممّا فعل هؤلاء المقاتلون غير الشرفاء! لقد أورثوا هذا الوطن سُبّة أبديّة، وقد أراده المخلصون وطن كرامة وحضارة وإشعاع!
عليهم لعنة الأجيال الطالعة! أولئك الذين جعلوا من بيروت الحلوة الخضراء، لؤلؤة ثغور بلاد العرب وشواطىء البحر المتوسّط، قاعًا بلقعًا وخرائب، إذ أمّها الزوّار والسيّاح من أطراف الأرض واستغنوا بها من زيارة خرائب "بعلبك" و"تدمر" و "جبيل" وسواها من المدائن التاريخيّة الخربة، وقفلوا عائدين إلى ديارهم ملصقين بنا، نحن اللبنانيّين، أبشع المثالب، مسفّهين ادّعاءنا أنّنا أهل علم ونور وأخلاق وثقافة وواصمينا بهمجيّة لم يوصم بها من أحرق القاهرة يومًا ولم تضارعها لا بربريّة "هولاكو" الذي دمّر بغداد ولا ساديّة "نيرون" الذي أحرق "روما" ولا وحشيّة أهل "الزنج" الذين أحرقوا "البصرة" في العصر العباسيّ!
إنّ مئات ومئات شاهدتهم في أثناء طوافي هذا، في العشرين من تشرين الثاني: منهم من دفعهم الفضول مثلي ليروا مشاهد هذه المأساة الرهيبة، ومنهم من جاؤوا لتفقّد ما أصاب متاجرهم من تدمير، فخفّضوا الرؤوس واجمين، والعبرات تكاد تنفجر من مآقيهم والغصّات توشك أن تخنقهم، لأنّ معظمهم من التجّار المتوسّطي الحال الذين انسدّت أمامهم أبواب الرزق لوقت قد يطول، لا يجدون فيه ما يُنئي عنهم غائلة الضيق والعوز إن لم أقل الجوع، وهل يعدل قطع الأرزاق عن الكثيرين من الناس أقلّ من قطع الأعناق، وفقًا لقول المثل الدارج؟! أمّا أغنياء التجّار، المدمّرة محلّاتهم، فلم يأتوا لأنّ أغلبيّتهم غائبون عن بيروت يتمتّعون بما يملكون من مال، في منأى عن الخطر والخوف، وهم متساوون، في نظرة الشعب المحروم إليهم، مع أصحاب الفنادق الفخمة المهشّمة.
والبعض الآخر، أكراد وفتيان تبدو عليهم أمائر الفاقة، يتجوّلون بين الأنقاض يبحثون عن أشياء يمكن أن يكون قد نسيها أو غفل عنها من سرقوا ونهبوا في خلال الأحداث وفي فترات توقّف القتال؛ هذا يحمل رزمة من قضبان الحديد أو الرصاص وذاك ينقل لوحًا من الزنك وذلك يسحب كرسيًّا يعلوه طبقة من غبار، ويضعون ما يحظون به في أكياس أو على عجلات، كمثل عجلات بيّاعي الخضار، والمارّة المتفرّجون ينظرون إليهم نظرة الإشفاق لما يبدو عليهم من آثار الفاقة، وأفراد جند الردع العربيّ يتغاضون عنهم، غير مكترثين لمثل هذه الهنات من السرقات1 ويمنعون الناس من المرور في أماكن لم تنفجر ألغامها بعد...
وبالقرب من بناية فتّال الكائنة عند المرفأ والتي تردّد ذكرها كثيرًا في خلال المعارك، بين الفئتين المتقاتلتين، تجمهر الناس وشخصت عيونهم إلى المباني العالية وقد استولى على معظمهم الذهول، فبدت أمارات الحزن والألم على وجوههم، وبعضهم بدا على عيونهم علامات اللامبالاة لا بل الشماتة بالأحرى، وأصغيتُ إلى ما كان يدور بينهم من حديث عفويّ وما يبدر من كلمات مقتضبة، تدلّ دلالة صحيحة على ما يتبادر إلى أذهانهم من أفكار وتعليقات، فقال أحدهم: هذا غضب الله حلّ بنا! ولو أنّ السماء راضية عن أعمالنا لما حلّت بنا هذه الكارثة، لنركع ولنصلِّ ليذهب عنّا هذا الغضب!
فتصدّى له آخر قائلًا: يا أخي لو أنّ الخراب الذي نشاهد أصاب متاجر الأغنياء وأصحاب المباني الأثرياء الذين أتاهم الغنى عن طريق الاحتكار والكسب غير الحلال واستثمار النفوذ والطمع لصحّ ما تقول، لأنّ الله الذي هو الحقّ وهو العدل وهو المحبّة، بعيد عن هؤلاء، لكنّ معظم هذه المحلّات التجاريّة التي ترى أصحابها من متوسّطي الحال المقلّين ولا يستحقون ما ذكرت من غضب الله، وفي معنى قولك ظلم بحقّ هذه الفئة، والله العادل لا يحبّ الظلم ولا الظالمين!
وقال ثالث: إنّ ما تشاهدون ليس سوى تعبير عن غضب الشعب الذي عانى الأمرّين من حكّامه الذين آزروا التجّار والمحتكرين على حساب هذا الشعب واستثمروه وحلبوه، فأثْروا هم، وافتقر هو، فأضاع هذا الغضب المحقون، طوال عهد الاستقلال أو بالأحرى الاستغلال، صوابه وعقله، فارتكب ما ارتكب من تدمير ونهب وسرقة وأعمال جنونيّة من جرّاء هذا الضياع!
وقال رابع: كفانا يا جماعة الخير، كفانا ما أصابنا. إنّه خزي وعار، ويحزّ في نفسي أن أقول إنّ ما اقترفت أيدينا ليس سوى تسفيه وصفع للمدّعين، إنّنا أبناء تاريخ وبناة حضارة وكشف لحقيقة زيف رقيّنا! لقد حاولنا خداع العالم بطلاء مدنيّتنا فجاءت هذه اللّوحة المأساويّة التي تشاهدون لتكذّب ادّعاءنا، فعسى أن نتعلّم منها أمثولة في التواضع ومعرفة النفس، إذ إنّهما بداية لرفع اسمنا في العالم وكسب ثقته واحترامه!
وغادرت المكان خافض الرأس بطيء الخطى، والنفس كسيرة والقلب حزين، خجولًا مما شاهدت عيناي ولا أكاد أصدّق ما شاهدتا، وقلت في نفسي ما قاله شاعر قديم:
لا يبلغ الأعداء من جاهلٍ ما يبلغ الجاهل من نفسه
يوسف س. نويهض
- الهنات من السرقات: التي لا تُحسب شيئًا لما سُرق من عنابر المرفأ والمصارف وسائر المؤسّسات الرسميّة والخاصّة. 1